التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفصل الأول - أين هيَ؟

 قبل عامين.

فتح نافذته المطلة على الشارع المجاور، كان يأمل في كلّ مرّة يفتح فيها النافذة أن يرَ العالم بلونه الطبيعي ولكن ذلك قد بدا بعيد المنال خصوصًا في أواخر شهر ديسمبر، حيث أن كل ما يراه في كل مرة يفتح فيها النافذة هو اللون الأبيض يغطي أرصفة الشوارع وأسطح المباني والسيارات، لطالما كره منظر الثلوج الذي بات يطمر كل ركن من أركان المدينة، ومنظر تلك الأشجار العارية التي كان من المفترض أن تزيّن الشوارع، فضلًا عن جعل المدينة تبدو كقرية أشباح مرعبة، خصوصًا في بدايات كل صباح.

غير أن الشعور بلفحات الهواء الباردة وهي تضرب وجهه وتحرك خصلات شعره، ورؤية المارّة يعبرون على الطريق وصوت الأطفال وهم يلعبون في الحديقة المجاورة كان يمنحه شعورًا بالراحة، شعورًا يذكّره بأن العالم لا يزال على ما يرام.

أخرج علبة السجائر والقداحة من جيبه وأشعل سيجارة،  كان قد انهمك في التفكير حينما اهتز هاتفه، وقطع حبل أفكاره، كانت تلك المكالمة التي ظل ينتظرها لأيامٍ عدة.

أجاب:

- "ألو، آمل أن لديك أخبارًا جيّدة هذه المرة!"

- "في الواقع يا نيكولاس، اتصلت بك لأنني أريد التحدث إليك هنا في مركز الشرطة لأطلعك على بعض الاخبار."

- "أنا في طريقي إليك!"

كانت كلماته قد بعثت في نفسه الأمل مجددًا، لم ينتظر طويلًا، فراح يلتقط معطفه المعلق بقرب الباب وقبل أن يهِم بالخروج سمع مواء تلك القطة، استدار ليجدها تقف في ذات المكان بجانب إحدى الطاولات في الشقة، كانت قطة سوداء خيفاء تحمل عينين ذات لونين متغايرين، إحدى عينيها ذات لون أزرق والأخرى ذات لون بني. وكانت القطة الخيفاء تتخذ موضعًا في ذلك الجزء من الغرفة، تحدق به في جمود دون أن تحرك ساكنًا، وكأنها إحدى قطع الأثاث الساكنة، إلّا أنه تجاهلها كما يفعل عادة، ثم خرج من الشقة.


***


توقفت أمام المرآة لتلقِ نظرة أخيرة وتتفحص ملابسها، كانت قد تعمّدت اختيار ذلك اللباس الفضفاض ذي القلنسوة لكيلا يتم تمييزها. لم يبدِ وجهها أية تعبيرات مميزة، ولم تكن لتتبيّن أية مشاعر في عينيها الزرقاوتين، أية مشاعر بصدد ما هي مقدمة على فعله.

في تلك الليلة الممطرة، كانت قد عَزِمت على قرارها، وبعد أن ارتدت الملابس المناسبة لتنفيذ خطتها، وضعت ملابس أخرى في حقيبتها، ارتدت قفازيها، وبالتأكيد، التقطت المسدس من على الطاولة المجاورة وخبأته في جيبها.

غطت رأسها بالقلنسوة وارتدت الحقيبة، فتحت نافذتها في هدوء شديد، تسلقت النافذة، ومن ثم تشبّثت بالجدار، لم تكن المسافة بين نافذتها والأرض بمسافة كبيرة، لكنها لم تكن مسافة هيّنة أيضًا، تطلبها الأمر أن تحاول النزول وهي تتشبّث بالجدار خشية أن تقع.

وفي لحظة ما، زلقت يدها بفعل هطول المطر المتواصل، ولحسن حظها أن النهاية باتت قريبة، حيث استطاعت أن تتزن على قدميها قبل أن تهوي على الأرض. رفعت رأسها لتنظر نحو النافذة، عَلِمَتْ أن العودة ستكون أصعب، لكن كان يجب أن تفعلها اليوم، ولا مجال للتراجع الآن.


***


كان المحقق "ديكنسون" ذو القوام البدين يحمل كوب قهوته الصباحية حينما دلف نيكولاس إلى مكتبه، حينما رآه نطق مرحّبًا:

- "أهلًا، نيكولاس."

جلس بسرعة وسأل:

- "ماذا لديك؟"

- احتسى القليل من  قهوته قبل أن يتحدث:

- "أردت إخبارك أننا سنتوقف عن البحث في هذه القضية."

توسعت عينيه لسماعه تلك الإجابة التي لم يكن يتوقعها، قال متفاجئًا:

- "قلت أن لديك أخبار."

- "لم أقل أنك ستُسرّ بسماعها!"

- "ما الذي يعنيه هذا؟ هل ستتوقف بهذه البساطة؟"

- "ليست بتلك البساطة، لقد أمضينا أشهرًا عديدة بصدد البحث عنها، لكن أتعلم؟ لم نجد أي أثرٍ لها! لقد اختفت وحسب."

- "أليست مهمتك هي اقتفاء الآثار والبحث عن المفقودين؟"

هز رأسه:

- "نعم نعم، لكنها ليست الشخص الوحيد المفقود في المدينة، كما أننا لا نبحث عن الأشباح كما تعلم."

التقط قطعة كعك محلى وقضمها، ومن ثم أكمل حديثه:

- "وماذا عنك أنت؟ أنت زوجها ولا تعرف شيئًا عنها، وليس لديك أدنى فكرة عمّا حدث قبل اختفائها، ماذا إن كانت قد هجرتك مثلًا؟ أو أنها غير مفقودة أصلًا؟ أتعرف كم عدد الزوجات اللاتي يتم قتلهن بأيدي أزواجهن سنويًا؟"

عقد حاجبيه وسأل:

"أتقول أن لدي يدٌ في اختفائها؟"

- "إنك لا تستطيع إنكار ذلك حتى، لمَ قد يكون ذلك خيارًا مستبعدًا؟ أعني يا نيكولاس، لا أحد يختفي هكذا، دون أن يخلّف آثارًا وراءه." أجابه ببرود ثم أكل قطعة الكعك.

قد تحمل كلمات ذلك المحقق جزءًا من الصحة، فهو لا يستطيع إنكار فكرة أنه قد يكون مسؤولًا بشكل أو بآخر عن اختفائها، فهو لا يتذكر أي شيء، ذاكرته لا تعطيه أية إجابات. صمَت لثوان ثم تنهد لينطق أخيرًا:

- "وماذا الآن؟"

- "لا شيء! أنصحك الآن بالعودة إلى منزلك ومشاهدة التلفاز وتناول بعض الفشار."

أمسك بكرتون الكعك المحلى ليقدمه له:

- "أتريد قطعة؟"

إلّا أنه في تلك اللحظة بدا أنه قد ضاق ذرعًا من ذلك المحقق، حيث أنه لم يحتمل البقاء في ذلك المكان لمدة أطول، وقف واتجه نحو الباب، وقبل أن يخرج أستوقفه المحقق ليقول:

- "سأطلعك على المستجدات، (إن) طرأ إحداها إن فهمت ما أعني." وقد قالها مشددًا على كلمة "إن".

رمقه بنظرة أخيرة كانت تحمل... ثم خرج دون إجابة، وقد اعتلت وجهة نظرة استياء، كان ذلك يعني أن فرصة حصوله على إجابات لأسئلته قد تلاشت، وعاد إلى منزله خالٍ الوفاض.

لم تحوِ شقة نيكولاس أية صور، وذلك ما لم يفهمه، لمَ لا يوجد صور لها في أي مكان؟ ماذا عن صور زواجهما؟ لم يمتلك سوى صورة واحدة لها باللون الأبيض والأسود، تظهر فيها وهي ترتدي فستانًا ابيض -او ذلك ما بدا في الصورة- وتجلس أمام مائدة طعام، كانت ذو شعر مموّج، عينيها تشع بالحياة، ولديها تلك الابتسامة الساحرة، وجدها في ألبوم صور فارغ كانت تلك هي الصورة الوحيدة فيه، ظل يتأملها لوقتٍ طويل، بغية تذكر ملامحها الطفولية التي قد نسيها هي الأخرى، ولولا تلك الصورة الوحيدة لما عرف كيف تبدو!

لا زال يعيش مع شبحها في ذلك المنزل، حيث لا تزال معظم ممتلكاتها فيه، إحداها كوب قهوتها الذي كُتِب عليه اسمها بخط عريض "لويلا"، وآخر على شكل كلب ولم يكن ذلك الشيء الوحيد، حيث أن صور الكلاب كانت تملأ ممتلكاتها، جعله ذلك يستنبط أنها كانت مولعة بالكلاب، وماذا قد يستفيد من معرفة ذلك في مهمة البحث عنها؟ وكما أن الموضوع برمّته بدا مستعصيًا عليه، أين ذهبت بلا أثر ودون أن تأخذ ممتلكاتها، ولمَ في هذا التوقيت بالتحديد؟ ذلك ما ظل يتساءل حوله لعامٍ كامل، وحتى الآن، لم يمتلك إجابة لأيٍ منها.

خلع قميصه ووقف أمام المرآة وأخذ يتفحص جسده، كان يمتلك عدة وشوم وندبات على جسده، وشم صغير على شكل وجه النمر وكان موشومًا على صدره، وآخر في أعلى ظهره ويظهر غرابًا أسود يفرد جناحيه وصولًا إلى كتفيه، أما الأخير فقد رمز ما لانهاية " ∞ " موشومة أعلى يده اليمنى. كان يكره النظر إلى تلك الوشوم، كانت دائمًا ما تشعره بالغباء، فهو لا يعرف متى أو لماذا هي على جسده، لم يفهم أبدًا، ولم تكن لتعطيه أي إجابة لتساؤلاته المتمحورة حول ذاته القديمة.

أثناء وقوفه أمام المرآة كان يستشعر وجود تلك القطة السوداء تقف خلفه، يشعر بعينيها اللتين تحدقان به، يعرف أنه ما أن يلتفت سيجدها تقف هناك، لكنه لم يكن ليرى انعكاسها في المرآة.


***


كان يتأمل حبيبات المطر وهي تضرب زجاج النافذة بوجهٍ عابس؛ كان يبغض تلك الأجواء الماطرة التي كانت تصيبه بالبؤس، للحظاتٍ، تراءى له في ‏الزجاج طيف لشخصٍ ما، يقف خلفه.‏ نظر نحو ساعته اليدوية ثم قال:

- ‏‏"أنتِ هنا، أتيتِ باكرة."

استدار وبدت علامات الدهشة على وجهه، تسمّر وجف الدم في عروقه حينما رآها تقف أمام الباب تحمل مسدسًا بيديها مصوب نحوه تمامًا، رفع يديه ببطء قبل أن يقول بنبرة هادئة يدّعي فيها ثباته، ‏في محاولةٍ منه لكسب الموقف:‏

- "دعينا نحاول تسوية الموضوع بطريقة أخرى، أقل عنفًا."‏

ويبدو أن محاولته لم تفلح، ما هي إلّا لحظات حتى وضعت رصاصة في جسده أسقطته أرضًا على الفور، كان ينظر إليها حينما أخذت تقترب منه ببطء، يتنفس بصعوبة ويضغط على جرحه الذي بدأ ينزِف بغزارة، وحينما دنت منه، حاول انتهاز محاولته الأخيرة، حيث قال بصعوبة:

- "قتلك لي لن يجيب على تساؤلاتك، لن يجلب لكِ سوى الحظ السيء."‏

كان يستطيع رؤية ابتسامة انتصار التي بزغت على وجهها آنذاك، والتي جعلته يتأكد أنه فشل للمرة الثانية وان نهايته باتت قريبة، اقتربت منه ثم همست في إذنه:

- "أراك في الجحيم."

كان ذلك اخر ما نطقت به قبل أن تقف وتوجه رصاصة أخيرة نحو جسده.

تعليقات