التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفصل الثالث - خلف الطاولة.

 قبل عامين.

بعد أن غربت الشمس، ودّع نيكولاس صديقه ليام وعاد إلى منزله. حيث استقبلته القطة السوداء وهي تجلس أمام الباب، تجاهلها، واتجه نحو الثلاجة، التقط زجاجة بيرة ثم جلس على الأريكة، كان قد تجرّع أكثر من نصف زجاجة البيرة قبل أن يضعها فوق الطاولة التي أمامه، ثم استلقى على الأريكة وأغمض عينيه، كان يريد أن يحظَ بغفوة يحاول فيها إراحة جسده وعقله المنهكين، ولكن لم تمر بضعة ثوانٍ حتى سمع صوت مواء تلك القطة بالقرب منه، فتح عينيه بصعوبة، ووجدها تقف أمامه فوق الطاولة، تحدق فيه بعينيها المتغايرتين.

نزلت من على الطاولة، وراحت تتمشّى في أرجاء الغرفة، كان يتتبع خطواتها بعينيه، حتى توقفت واستقرت في مكانها المعهود الذي اعتادت أن تقف فيه، بجانب إحدى الطاولات، لم يأبه لأمرها وأغلق عينيه للمرة الثانية، ويبدو أن القطة كان لديها رأي آخر، لم تُرِد منه أن يأخذ قسطه من الراحة، وبدأت تموء مجددًا. تجاهلها، إلا أنها استمرت بالمواء بدون توقف، ذلك ما جعله يشتاط غضبًا ويلتقط زجاجة البيرة من فوق الطاولة ويرميها على الحائط بجانبها، وينطق في حنق:

- "توقفي عن إزعاجي، عليك اللعنة!"

حينها توقفت عن المواء، كانت لا تزال تقف في مكانها، عينيها مصوبتين نحوه تمامًا، وذيلها يتحرّك يمينُا ويسارًا، عدى ذلك لم تحرّك ساكنًا، حتى بعد أن رمى الزجاجة بجانبها، ذلك ما جعل القشعريرة تسري في جسده، لكن سرعان ما تذكر كونها مجرد وهم اختلقه عقله، أو هذا ما اعتقده.

حينما رأى ما تبقّى من البيرة مسكوبًا على الأرض وشظايا الزجاج المتناثرة، تنهّد، أدرك أن عليه تنظيف تلك الفوضى التي أحدثها للتو. جثا على الأرض بجانبها ليلتقط شظايا الزجاج، وما هي إلا لحظات حتى بدأ يطلق اللعنات والشتائم حينما رأى الدم يسيل من يده، كان قد جرح نفسه بفعل التقاطه لشظيات الزجاج وعدم انتباهه لذلك. رمق القطة بنظرة سريعة، عندها بدا وكأنه لمح وجود شيء ما، عاود النظر باتجاهها، ورأى ورقة ما تستقر خلف الطاولة التي تقف القطة بجانبها، ورقة ما لم يلحظ وجودها من قبل، ترك ما بيده وراح يحاول سحب تلك الورقة، وكانت عدة دقائق واجه فيها صعوبة حتى تمكّن أخيرًا من سحبها، لم تكن ورقة عادية، لا، لم تكن ورقة، كانت صورة فوتوغرافية.

تظهر فيها فتاة بشعر احمر مموّج، ذات عينين واسعتين، بشرتها شاحبة والنمش يكتسي أسفل عينيها، ذو وجه طفولي وجسد ضئيل، ووشم أعلى يدها اليمنى، رمز ما لا نهاية ♾. لم يأخذ وقتًا طويلًا للتفكير في هويتها، كان يعلم أنها صورة أخرى للويلا، هي ذاتها، ذات الابتسامة الساحرة والعينين المشعتين بالحياة. لم يعرف ما سبب وجودها في هذا المكان، وما سبب إصرار القطة على أن يجدها، كان لديه العديد من التساؤلات، لكن أهمها وما لم يفهمه هو، لماذا يمتلكان الوشم نفسه؟ ما الذي يعنيه هذا؟

نظر نحو القطة وقال:

- "أهذا ما كنتِ تريدين مني رؤيته؟ لماذا؟"

عندها تحركت من مكانها أخيرًا، ثم توارت عن أنظاره، واختفت.


***


ميشيل

كانت كيرا برفقة جيل ويجلسان في إحدى غرف ذلك المنزل الكبير، وأمامهم تجلس ميشيل، إحدى الخدم في ذلك المنزل، وهي امرأة  في الثلاثينات من عمرها. ضغطت كيرا زر التسجيل ووضعت هاتفها على الطاولة أمام ميشيل، ثم تحدثت:

- "إذن، نواه سنايدر توفي ليلة الأمس، لدينا اعتقاد أن ذلك قد حدث بين الساعة العاشرة والثانية عشرة، ألم تلاحظي أو تسمعي شيئًا في ليلة الأمس؟"

- "لم أكن في المنزل ليلة الأمس."

- "لم تكوني في المنزل؟"

- "والدتي مريضة، وكنت في المستشفى، برفقتها، بقيت هناك طوال الليل، وعدتُ إلى هنا باكرًا في الصباح، قبل أن يحدث كل هذا."

- "هل لاحظتِ أمرًا غير مألوفٍ مؤخرًا؟ تصرفات مريبة من ربّ عملك مثلًا."

- "لستُ متأكدة."

أخذت ميشيل تفكر لثوان، وبينما كانت كيرا تدون الملاحظات في دفتر ملاحظاتها، تحدثت ميشيل:

- "في الواقع، تذكرت أمرًا قد حصل قبل عدة أيام، لكنني لستُ متأكدة إن كان ذكر ذلك مفيدًا أم لا."

انتظرت كيرا إجابتها، فأكملت:

- "رأيت السيد روبينسون يتشاجر مع السيد سنايدر قبل عدة أيام."

- "أتعنين زوج مدبرة المنزل؟"

- "نعم."

نظر جيل وكيرا نحو بعضهما البعض للحظات، ثم سألها جيل:

- "وما سبب ذلك؟"

هزت رأسها بالنفي:

- "لا فكرة لدي."


***


بانتصاف الليل، تهدأ الحياة ويعم السكون في معظم أنحاء المدينة، وتدب الحياة في أماكن أخرى، حيث خرج مجموعة من الأصدقاء مؤلفة من ثلاثة شبان وفتاتين في بداية العشرينات من إحدى النوادي الليلية، بعد قضاء ليلة صاخبة.

- "من سيقود السيارة؟" سألت إحدى الفتاتين.

- "هو بالطبع!" قالها أحد الشبان الثلاثة وهو يضرب ظهر صديقه الآخر.

- "أنا؟ ولماذا؟"

- "هذا واضح، أنت الوحيد الذي امتنع عن الشرب بيننا."

كانت تلك المحادثة آخر ما دار بينهم قبل ركوبهم السيارة، قاصدين بذلك العودة إلى السكن الجامعي، ولم يخلُ طريق عودتهم من ذات الأجواء الصاخبة، كان صوت الموسيقى يصدح في السيارة، بينما هم يرقصون على صوت الموسيقى ويغنون ويضحكون، ما عدا سائق السيارة الذي لم يبعد ناظريه عن الطريق، كان يقود في هدوء وصمت في طريقٍ مظلمٍ خالٍ من المباني، وشبه خالٍ من السيارات، حيث أنه لم يلحظ مرور أي سيارة منذ وقتٍ طويل. وبعد القيادة لعدة كيلو مترات، تنبّه لوجود سيارة بلا أضواء متوقفة أمامه، في منتصف الطريق، توقفوا عن الغناء حينما أخفض الشاب الذي كان يجلس في كرسي الراكب صوت الموسيقى. حينها اقتربت منه إحدى الفتاتين وسألته باستياء:

- "لماذا أطفأت الموسيقى؟"

- "هناك سيارة متوقفة في منتصف الطريق." أجاب وهو يشير نحوها.

- "كنت على وشك التوقف لأتفقدها." قال السائق.

- "هل أنت متأكد؟ لم لا نتركها وحسب." تحدثت الفتاة الأخرى.

سألها حينما توقف خلف السيارة تمامًا:

- "ولم ذلك؟"

- "لا أعلم، ينتابني شعورٌ سيء حيال هذا."

- "كفي عن إقحام شكوككِ في كل أمر، لابد أن صاحب السيارة واجه مشكلة." قالت لها صديقتها.

- "وما شأننا نحن؟ كان ليستطيع الاتصال بأحدهم لمساعدته."

- "إنها محقة، من يترك سيارته في منتصف الطريق؟ قد يكون طعمًا لقتلنا وضعه قاتل متسلسل في الجوار." قال أحد الشبان.

فرد الآخر:

- "عن أي قاتلٍ متسلسل تتحدث يا رجل؟ أتعتقد أننا في فيلمٍ ما؟"

كل ذلك كان يحصل على مسامع السائق الذي تنهّد، ثم فتح باب السيارة وترجل منها ليحسم الجدل الحاصل، وراح يمشي في الظلام باتجاه تلك السيارة المتوقفة على الطريق وهو يفرك يديّه من شدة البرد، لم يكن هناك ضوءٌ يستدل به سوى النور المنبعث من أضواء سيارته في الخلف، في البداية، لم تبدُ هناك أية إشارات على وجود أحدٍ في السيارة، حتى وقف أمام باب السائق، وبالكاد استطاع أن يرَ امرأة نائمة خلف المقود، طرق زجاج النافذة بهدوء وقال:

- "سيدتي، هل أنتِ بخير؟"

لم يكن ذلك كافيًا لإفاقتها، فطرق مجددًا، ولم يتلقَ إجابة. اقترب من النافذة اكثر ليمعن النظر، وفي تلك اللحظة، توسعت عينيه وتسمّر في مكانه للحظات. ثم ركض عائدًا نحو سيارته بوجه ممتقع، ركب السيارة دون أن ينطق، ولم يغفل أصدقاؤه عن رؤية تعابير الفزع في وجهه، حلّت لحظات من الصمت، كانت أعين أصدقائه موجهة نحوه، في انتظارٍ منهم ليتحدث، إلا أنه لم يكن لينطق بكلمة، حتى سألته إحدى الفتاتين بقلقٍ واضح:

- "تحدث! ماذا هناك؟ ماذا رأيت؟"

مرّت عدة ثوانٍ، ثم قال:

- "علينا الاتصال بالشرطة."


***


هانا

- "متى كانت المرة الأخيرة التي رأيتِ فيها والدك؟" سألت كيرا، موجهةً ذلك السؤال إلى أميرة المنزل الصغيرة، والتي كانت لا تزال بزيها المدرسي حينما كانت تجلس أمام المحققين.

- "حينما كنّا نتناول العشاء البارحة." أجابتها هانا وهي تنظر إلى الأسفل.

- "متى كان ذلك؟"

- "في الثامنة، نحن دائمًا ما نتناول العشاء في الثامنة."

- "ألم تلاحظي أو تسمعي شيئًا غير مألوف بالأمس؟"

هزت رأسها بحركة قوية:

- "لا أعلم، ذهبت إلى غرفتي لأنام بعد ذلك."

كانت هانا تهز ساقيها بشكلٍ واضح وتفرّك يديها باستمرار، تقلّب عينيها في كلا الجانبين، لكن لم تضع ناظريها نحو أيٍ من المحققَين. لم يغب ذلك عن ناظريّ كيرا، ولكنها ولسببٍ ما، ارتأت أن عن سؤالها، حيث أوقفت التسجيل ثم قالت لهانا:

- "حسنًا. أعتقد أننا سنكتفي بهذا الآن، يمكنكِ الذهاب."

حدقت هانا فيهما للحظات، أخذت تحول بنظرها نحو المحققين، بدا وكأنها على وشك التحدث، لكنها لم تفعل، ثم نهضت بسرعة وغادرت الغرفة. لم يكن قرار كيرا مفاجئًا فقط لهانا، بل ولجيل الذي التفت نحوها بعد أن غادرت هانا الغرفة وقد كانت علامات الاستياء واضحة على وجهه، سألها:

- "ما كان ذلك؟ ألم يكن من المفترض أن نسألها أكثر؟"

- "لا أعتقد أنه من المستحسن الأخذ بأقوالها في هذا الوقت."

- "ألم تري وجهها؟ إنها تخفي شيئًا ما."

عللت فعلتها بهدوء:

- "رأيت ذلك. لكنها مجرّد طفلة وقد فقدت والدها للتو، من الأفضل تركها الآن."

بعد أن قالت ذلك نهض جيل وخرج من الغرفة وهو يتمتم:

- "بحق الإله..."


***


وجد نفسه في مكان مكتظٍ بالناس، بين نساء يرتدين الفساتين ورجال ببدلات رسمية، كانت المجوهرات والحلي الباهظ يتلألآن في أيدي وأعناق الحضور، والطعام الفاخر وكؤوس النبيذ في كل مكان، بدا وكأنه حفل ما للأثرياء، وكان هو يقف في المنتصف، ينظر نحو أحد الرجال الأثرياء والذي كان يمسك بقدح النبيذ ويشارك أطراف الحديث مع مجموعة من الرجال والنساء، أدخل يده في جيب سترته الداخلي ليتفحّص المسدس الذي كان يخبئه، اتخذ موضعه قبل أن تدق الإشارة بلحظات، ثم أخرج ذلك المسدس وصوّبه نحو ذلك الرجل الثري، وقبل أن ينتبه أحدهم لذلك، دقت الإشارة، انطفأت الأنوار، وحل الظلام في أرجاء قاعة الحفل، معطية له الفرصة ليقوم بحركته ويضغط الزناد، متسببًا بذلك بإحداث الفوضى والصراخ.

فتح عينيه، ثم نظر نحو الساعة الموضوعة فوق الطاولة بجانب السرير، والتي كانت تشير نحو الثالثة بعد منتصف الليل، لم يكن ما رآه سوى حلم، وقد أيقظه صوت رنين هاتفه، أخذ يفتش عن هاتفه لثوانٍ في العتمة، قبل أن يلتقطه ويحاول قراءة اسم المتصل، ثم يجيب بنصف عين:

- "نعم."

- "مرحبًا نيكولاس. معك المحقق ديكنسون."

أجابه نيكولاس بصوتٍ ناعس:

- "أعرف من تكون. ما الأمر الهام الذي يجعلك تتصل بي في الثالثة صباحًا؟"

- "لدينا أخبارٌ لك. حسنًا، ليست كما تبتغي."

- "وما الذي يعنيه هذا بحق الإله؟" سأله وهو يدعك عينيه.

- "وجدناها، وجدنا زوجتك."

تعليقات