التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفصل الثاني

 قبل عامين.

بينما كانت طيور النورس  تحلق في الأرجاء، كانا يقفان على حافة الجسر لم ينطق أحدهما بكلمة لمدة من الزمن، أحدهما اكتفى بأن يستند على سياج الجسر ويتفرّج على المارة، والآخر يمسك بيده سيجارة وينظر نحو أمواج البحر وهي تتلاطم اسفل الجسر، قطع الأول ذلك الصمت حينما رأى مجموعة من الصبية الصغار يتجولون في الجوار، حيث قال:

- "لقد اعتدنا اللعب هنا كثيرًا في صغرنا، كنّا نهرب في بعض المرّات من الميتم لنأتِ إلى هنا."

أجابه الآخر بنبرة ساخرة:

- "كنت لأتشارك معك ذكريات طفولتنا السعيدة لو أنّي أتذكر."

تجرّع القليل من سيجارته ثم نفثها وأكمل:

- "لقد اتصلت الشرطة بي البارحة."

نظر نحوه وسأل، ونظرة التأمل في عينيه:

- "بخصوص لويلا؟ هل وجدوا شيئًا ما؟!"

قابله نيكولاس ببرود:

- "سوف يغلقون ملف القضية."

- "ولِمَ؟"

هز رأسه بالنفي:

- "لا أعلم."

صمت للحظات، ثم أردف:

- "إنني أتساءل يا ليام،  لِمَ على الأمور أن تكون هكذا في مثل هذا الوقت؟ أكان عليها أن تختفِ قبل أن أفقد ذكرياتي اللعينة؟"

 لم يجبه، لم يبدُ أن صديقه يمتلك إجابة لتساؤلاته هو الآخر، عاود النظر نحو المارة، ثم قال كنوع من الطبطبة:

- "لا تقلق، ستظهر عمّا قريب."

رسم ابتسامة ساخرة على ثغره حينما سمع كلماته، بدت كلمات ليام تحمل نوع من الأمل، الأمل الزائف الذي ظل يخبر نفسه به طوال الأشهر الماضية، ولكن بعد مرور تلك الأشهر الطويلة بات يعلم الآن أن ذلك لن يحصل، أو أنه بدأ يفقد أمله في ذلك. 


***


ترجلت من السيارة، خائرة القوى، تجر قدميها نحو منزلها بصعوبة، كانت عائدة إلى المنزل بعد خوض يومٍ طويل في العمل، في تلك اللحظة لم تبتغِ أكثر من الحصول على حمام دافئ والخلود إلى النوم، ولم تكن لتتوقع أنها ستحصل على أكثر من ذلك في هذه الليلة.

- "مرحبًا عزيزتي، كيف كان يومكِ؟" كان ذلك أول ما سمعته بعد أن دلفت منزلها.

أجابته وهي تخلع معطفها ووشاحها وتعلقهما خلف الباب:

- "لا أعتقد أنني مستعدة للتحدث عنه."

كان يجلس أمام التلفاز، ينظر إليها بابتسامة سمحة ولطيفة، لمّت شعرها القصير برباط وهي تتجه نحوه، طوّقت يديها على أكتافه وطبعت قبلة صغيرة على خده، كانت رؤية وجهه الذي يجلب لها الراحة وعينيه الدافئتين بعد العودة للمنزل من بعد يومٍ طويلٍ بمثابة مكافأة بالنسبة لها. فقط في تلك اللحظة وقعت عينيها على طاولة الطعام في الجانب الآخر من الغرفة، كان قد أعد العشاء مسبقًا وجهّز المائدة ووضع قدحيّ نبيذ واشعل بعض الشموع فوق الطاولة، اخذت تفكر لثوان، تحاول تذكر تاريخ اليوم، ثم قطبت حاجبيها مستفسرة:

- "ما مناسبة ذلك؟ أنسيتُ أمرًا ما؟"

هز كتفيه وأجاب:

- "لا مناسبة! أحببتُ أن أفعل أمرًا مختلفًا اليوم."

بادلته بابتسامة صغيرة:

- "حسنًا."

جلسا على طاولة الطعام، خاضا محادثات طويلة، يتخللها الضحكات بينما كانا يتناولان العشاء، وكانت قد تنبّهت لتبسّمه وتحديقه المتواصل فيها طوال ذلك الوقت، بعد أن انتهت من تناول الطعام ووضعت ملعقتها على الطاولة، سألها:

- "إذن، ما رأيكِ بالعشاء؟"

- "أنت تعلم أنني أحب طهوك، وهذا أمرٌ لن يتغير."

أسندت يديها على الطاولة واقتربت منه، ضيّقت عينيها وقالت بنبرة مشككة:

- "بماذا تريد إخباري يا هانتر؟ أستطيع أن أرَ أنك تخفي أمرًا ما."

ضحك:

- "هل أنا تحت الاستجواب؟"

- "أنت كذلك. هيا أخبرني، ما الذي تخبئه؟"

- "حسنًا إذن، إن كنتِ ستلعبين دور المحقق الآن، لا أعتقد أنني سأفكر بمواجهتك."

قال ذلك، ثم أخرج شيئًا من جيبه وقبل أن تتبيّن ما هو وضعه فوق الطاولة، كانت علبة صغيرة ذو قماش مخمل قرمزي، وقد نُقِش عليه حرف "K" بلون ذهبي، التقطته كيرا من فوق الطاولة وأخذت تتأمل العلبة ثم فتحتها، كان بداخلها خاتم مغطى بالألماس، وينتصفه ألماسة كبيرة، كانت قد مرّت عدة ثوانٍ قبل أن يسألها هانتر:

- "ألم يعجبك؟" حيث قال مستفسرًا، حينما لم يتبيّن تعبيرًا واضحًا على وجهها.

نفت:

- "لا، لا ليس كذلك، لقد أحببته حقًا، لكنني لم أتوقع ذلك."

كانت تبتغي اليقين، حيث نظرت نحوه حينها وسألت:

- "ما الذي يعنيه هذا؟"

سكت لمدة قصيرة وهو ينظر للأسفل، بدا وكأنه يحاول استجماع وترتيب كلماته، وبعدها، نطق:

- "أنكِ المرأة التي أريد أن أشارك ما تبقَ من حياتي معها، أريد أن أحظَ بأكثر من تلك الثلاثة أعوام التي قضيتها برفقتك يا كيرا، برفقة المرأة التي أحبها." 

تأمل عينيها للحظات ثم قال مبتسمًا:

- "أريدك أن تكوني معي دائمًا، أريدك أن تكوني زوجتي."

كانت تستمع لكلماته بإنصات وتعتلي وجهها ابتسامة هادئة، كانت تلك لحظة قد انتظرتها لثلاثة أعوام، كلماته، نظراته، وابتسامته أذابت قلبها، كما اعتادت أن تفعل، ظلّا يتبادلان النظرات حتى مدّت يدها نحو يده، تشابكا الأيدي ومن ثم قالت وهي تتأمل عينيه:

- "أنا موافقة."


***


التقطت أميرة المنزل الصغيرة ذي الأربعة عشر ربيعًا حقيبتها مستعدة للذهاب إلى مدرستها، وقبل رحيلها ودعتها العمة ماريس قائلة:

- "فلتحظي بيومٍ طيّب."

بادلتها هي الأخرى بابتسامة صغيرة وودعتها ملوّحة، ثم ركبت السيارة برفقة السائق وهمّت بالذهاب. بين أم تركتها في عمر الخامسة وأب منخرط في عمله، لم يعر تلك الأميرة الصغيرة أيٌ منهما اهتمامه، لكن ماريس مدبرة المنزل كانت دائمًا برفقتها، بمثابة الجدة الحنون، كما كانت كذلك لأفراد تلك العائلة، بالرغم من أن آخر من تبقّى من أفراد العائلة في ذلك المنزل الكبير هما الأميرة الصغيرة ووالدها، إلّا أن السيدة ماريس ظلّت تخدم في ذلك المنزل لأكثر من 30 عامًا.

وبعد أن أتمّت ماريس معظم عملها لهذا اليوم، قررت الذهاب لتنظيف الركن الخارجي للمنزل قبل أن تأخذ قسطًا من الراحة، كان الركن الخارجي  يقع على مقربة من الركن الرئيسي للمنزل، وقد كان أشبه بمنزلٍ صغير منفرد، كان خاصًا بوالد الأميرة الصغيرة، حيث أنه لم يكن يسمح بدخول شخص آخر غير ماريس إليه.

دخلت ماريس الركن الخارجي وبحوزتها مواد التنظيف، كان أول ما رأته هو بركة حمراء على الأرض، آتية من مكتب والد الأميرة الصغيرة، لم تفكر كثيرًا بماهيتها، فقد اتجهت فورًا نحو المكتب لتنظفها، وما أن دلفت أسقطت ما بيدها  وتسمّرت في مكانها حينما رأته جثة هامدة أمامها ودماؤه تغطي الأرض، تلى ذلك إطلاقها لصرخة كان من المستحيل أن لا تعبر مسامع أحد ممن يقطنون في المنزل.


***


فتحت كيرا عينيها على اشعة الشمس وعلى قبلاته التي كان يطبعها على رقبتها.

- "صباح الخير." قالت له.

لم يجبها، اكتفى بأن يرفع ملابسها ويضع يده على خصرها ويتحسس جسدها، حينها سألته مستنكرة:

- "ما الذي تفعله؟"

- "أليس هذا واضحًا؟"

قالت وهي تبعد يده عنها:

- "هذا ليس الوقت المناسب، سأتأخر عن العمل."

- "نحن لم نخض منذ وقتٍ طويل." 

قبلها على خدها قبل أن يقول:

- "سيكون هذا سريعًا، أعدك."

نظرت إلى عينيه للحظات، ما كان منها سوى أن توافق:

- "حسنًا."


***


كان هناك عدد من سيارات الشرطة تطوق المكان أثناء وصولها، حيث أنها قد وصلت متأخرة إلى المكان الذي تم استدعاؤها إليه اليوم، ترجلت من سيارتها وأخذت تعاين ذلك المنزل الكبير والعتيق لمدة من الزمن، قبل أن تسمع أحدهم يتحدث:

- "أنتِ المحققة كيرا اونيل، صحيح؟"

كان رجلًا في منتصف الثلاثينات، قطّبت كيرا حينما رأته، ظنًا منها أنه أحد أولئك الصحفيين المتطفلين الحمقى، نظرت نحو يده التي مدها في الهواء ليصافحها وأجابت:

- "نعم، ومن تكون؟!"

- "المحقق جيل مور، تم إرسالي لأساعد الشرطة في حل هذه القضية."

وقد تغيرت تعابير وجهها في ذلك الوقت، حيث بادلته بابتسامة مصطنعة ومدت يدها لتصافحه بالمقابل. كانت تتساءل في نفسها عن سبب عدم معرفتها مسبقًا بقدوم شخصٍ آخر لمساعدتها، لكنها لم تأبه بسؤاله عن ذلك آنذاك، وبينما كانا يمشيان بين ارجاء ذلك البيت الكبير متوجهين إلى تلك الغرفة حيث تمت فيها الجريمة، سألته:

- "لماذا تم إرسالك إلى هنا؟"

- "رؤسائي يريدون معرفة هوية الفاعل والقبض عليه في اقرب وقت."

- "ولم؟ هل الضحية بتلك الأهمية؟"

- "بإمكانك قول ذلك، يدعى نواه سنايدر، رجلٌ في أواخر الثلاثينات من عمره، كان سياسيًا ولديه العديد من الأعداء."

تمتمت في نفسها:

- "لا عجب أن رؤساءك مذعورون ويريدون القبض على الفاعل خشية أن يكونوا الضحية التالية."

كان ذلك الجسد الهامد يستند على الجدار بجوار باب المكتب مباشرة، فوق بركة من الدماء، وقد تم تغطيته بقماش أبيض، حين وصلت كيرا نزعت ذلك الغطاء، وأخذت تتمعّن في جسد القتيل ودنت نحوه لتتفحّصه عن قرب، كان مطأطئ الرأس ويضع إحدى يديه على بطنه. قال جيل:

- "وجدته مدبرة المنزل منذ حوالي ثلاث ساعات، وقد عُثر على رصاصتين في جسده، أحدها في كتفه والأخرى في بطنه، لم تكن رصاصة قاتلة حيث كما ترين..." أشار نحو بقعة الدماء على الأرضية، والتي كانت تمتد بدايةً من النافذة الزجاجية قبالة الباب وتنتهي حيث تستقر الجثة، حينها أكملت هي:

- "أرى ذلك، ظل يزحف نحو الباب، حيث نزف حتى الموت."

ضمّ يديه وقال:

- "لا آثار للافتحام او السرقة، لا بصمات أصابع أو حمض نووي أو اثار اقدام، لا شيء على الإطلاق."

نظرت نحوه:

- "أتقول أننا نبحث عن شبح؟"

- "لن يكون كذلك إن عثرنا عليه، ولكننا وجدنا هاتفه محطمًا، لا أعتقد أنه سيكون ذو فائدة، فقد تهشّم تقريبًا."

- "تقنيو الأجهزة في القسم سيرون في هذا الأمر. ماذا عن أفراد المنزل؟ من يعيش فيه؟"

- "ابنته المراهقة وثلاثة من الخدم، تم استدعاؤهم في المنزل الرئيسي."

- "وزوجته؟"

هز رأسه بالنفي:

- "لم يكن متزوجًا."

بقيت كيرا في المكتب لدقائق، كانت تبحث فيها عن أدلة في الجوار، أدلة أو آثار ما قد غفل عنها رجال الشرطة أثناء تنقيبهم عن المكان، لكن لم يكن هناك أمر مميز في مكتبه، لقد دخل القاتل إلى ذلك الركن بهدوء، لم يقتحم المكان. كان القتيل لا يزال يرتدي ساعة ثمينة، والخزينة لم تتعرض للنهب، لا آثار سرقة، لم يسرق شيئًا، أيّ أنه لم يكن لصًا. لا آثار صراع، صوّب القاتل نحوه واطلق رصاصتين، ثم غادر، لكن لمَ توقف عند ذلك؟ لمَ لم يقتله؟

كانت قد خرجت من المدخل الوحيد للركن الخارجي، رفعت رأسها وحينئذ رأت كاميرا معلقة في الزاوية، أشارت نحوها وقالت: 

- "مهلًا! ألديه كاميرات أمنيّة في المنزل؟"

وافقها جيل:

"صحيح."

ثم أكمل:

- "بالنسبة إلى ذلك، هناك عدة كاميرات خارجية معظمها موزع في الركن الرئيسي للمنزل، لم يحوِ الركن الخارجي سوى كاميرا واحدة، ولكن..." قال في حيرة.

كلمته الأخيرة التي تلفّظ بها قد بدأت تشعرها بأن تلك القضية لن تكون سهلة، نظرت إليه في صمت وهي تنتظر إجابته وعلامات الاستياء واضحة  على وجهها، فاستأنف حديثه:

- "لم نعثر على جهاز تسجيل الكاميرات*، كان قد أُخِذ قبل وصولنا."

تعليقات