التخطي إلى المحتوى الرئيسي

النقيض: مقدمة.

 في زمنٍ ما، في مكانٍ ما، يقبع سجينًا لحجرته المظلمة، خالية سوى من سرير متهالك في نهايتها وكرسي قد تموضع منتصفها، ومصباح وحيد قد توسط سقفها ويكاد أن يتسلل ضوءه لزواياها وبعض أجزائها، لا يعلم في أي ساعة أو في يومٍ من الشهر، أو أي فصلٍ من فصول السنة هو، لم يكترث لمعرفة هذه الأمور، قضيته العظمى كانت أمرًا واحدًا فقط، سؤالٌ واحدٌ فقط، ظل يسأل نفسه ويتساءل حوله لأيام، شهور، وربما سنوات، لم يعد يقدر على عد الأيام، حجرته المعتمة منعته من الشعور بمرور الوقت، لطالما ظن أن كل تلك الأيام التي قضاها في غرفته المعزولة كانت كذبة، هو لم يقضِ سوى يومٍ واحدٍ فيها، يُعاد ويتكرر في كلّ مرّة.

في كل يوم وفي نفس التوقيت، يُسمع صوت صرير الباب وهو يُفتح ويظهر ذات الرجل، يعلم يقينًا من يكون رغم غياب وجهه في انصاف الظلمة، يتقدّم إليه بخطوات بطيئة وصدى فردتيّ حذائه وهي تضرب بالأرضية تعلو وتزيد في كل خطوة يقترب فيها منه.

في اللحظة التي يسقط فيها ضوء المصباح الوحيد في الحجرة وينجلي وجهه يتناول الكرسي ويجلس أمامه مباشرة، يخلع نظارته وينظّفها بطرف قميصه قبل أن يعاود ارتداءها، يشبّك يديه ويضعهما تحت ذقنه، ثم ينطق بذات الوضعية، بذات النظرة، وبذات النبرة الرتيبة : "إذن، كيف أصبحتَ اليوم؟ هل تحسّنت صحتك؟".

لم يزح عينيه عن الأرض أو ينظر إليه، لم يبدِ ردة فعلٍ اتجاهه أو يجيب عن سؤاله ببساطة.

بعد تفكيرٍ غير مطول من ذلك الرجل، اقترح : "دعنا لا نتحدث عن تلك الأمور الاعتياديّة اليوم، ما رأيك أن تشاركني بما تفكر به؟".

"كنت أتساءل عن سبب ترددك إليّ كل يوم، لم؟ أتحاول إيصال فكرةٍ ما إلي؟"، قال جملته الأخيرة بنبرة شكوكيّة، ألجمت الرجل لثوانٍ، لكن سرعان ما لملم نفسه ثم أجاب بهدوء : " سأغض النظر عمّا تعنيه، لأننا نريد مساعدتك، ليس إلا".

- "إذن، أخبرني منذ متى وأنتم تحتجزونني هنا؟ أيمكنك الإجابة؟".

استقام الرجل في جلسته، كتِف يديه واسند ظهره على الكرسي، وقد أخذ وقتًا أكثر من اللازم قبل أن يجد الإجابة الملائمة ويتفوه بها : "منذ وقتٍ طويل!".

نطق بنبرة تعنيف : " وقت طويل وأنت لم تتمكّن حتى الآن من إخباري من أكون!".

تنهّد : "كلا يا عزيزي! أنت تعرف الجواب مسبقًا، عليك الرضوخ بالواقع ونسيان كل ذلك، نعم، أعلم بأنها خطوةٌ صعبةٌ عليك، لكنها الأهم لكلينا".

عض شفته السفليّة مغتاظًا وأشاح بنظره بعيدًا، ببساطة لم يقتنع بجوابه الذي كرره عليه أكثر من مرة، لأنه في تلك المرات لم يرغب بسماع غير ما هو مؤمن وموقن به بقلبه وبكل جزء من جسده، هويته قد مُحيَت، وجوده بات عدمًا، أمنياته وأحلامه التي بنيها منذ طفولته، ما يدفعه للمضيّ في هذه الحياة، بات يتبخر ويختفي ويصبح طي النسيان.

باختصار، أصبح لا شيء!

وقف الرجل وعاد أدراجه وهو يجرّ قدميه نحو الباب، قبل خروجه من الحجرة التفت نحوه وذكر بهدوء : "عليك أن تفهم بأنك ضيفٌ هنا، نحن لا نحتجزك وأنت لست سجينًا".

اختتم حديثه قبل أن يغلق الباب خلفه وهو يقول : "أراك في الغد".

بعد خروج الرجل ظل يراقب ذلك الباب لمدةٍ وجيزة، قبل أن يخرج صوتٌ من أحلك زاوية في الحجرة، صوتٌ لشخصٍ يعرفه جيدًا ويبغضه جدًا : "أنا وأنت نعلم بأنه يكذب، إياك والتصديق بما يلفقه لك ذلك الرجل!".

كان يعلم بأنه يقف في تلك الزاوية المظلمة تمامًا، لكنه لم يرغب بالالتفات نحوه أو النظر إليه، لأنه كان يكرهه، يمقته، ويشمئز منه، ودائمًا ما يشعر بأنه المتسبب في كل أمرٍ سيءٍ يحصل له، كان يقف منتصبًا هناك طوال الوقت، ينصت لما دار بينهما قبل لحظات، إلا أن ذلك الرجل لم ينتبه لوجوده برفقتهما، لم يره قط، ولن يتمكن من ذلك أبدًا.

تعليقات