التخطي إلى المحتوى الرئيسي

  

اعتدت رائحة الأوراق، الحبر، والألوان، الرائحة التي تميّز تلك الغرفة عن غيرها، أقلامه المبعثرة على الطاولة، اللوحات المعلّقة على كلّ جزءٍ من جدرانها، أرضيّتها البيضاء المليئة ببقع من ألوان مختلفة، ليس مستغربًا من مرسم رسّام ينسى إغلاق علب ألوانه، ويرمي فرشه أرضًا بعد أن ينته من رسم لوحته.

في الجهة اليمنى للغرفة يعلّق أغرب لوحاته، أو هذا ما أعتقده، جميع لوحاته التي علّقها على ذلك الحائط كانت إمّا لأشخاصٍ بأعضاءٍ مفقودة، بلا عين أو أنف أو رقبة، أو بأعضاءٍ زائدة، لكن صدّقوني فهي الأكثر بشاعة.

كان شخصًا واحدًا ذلك الذي أعاد رسمه مرّات ومرّات، لولا هندامه الأنيق وشعره الممشوط لما عرفته، فهو لم يرسم لوحةً كاملة له ومتأكدةٌ بأنني لن أعرفه إن فعل، كان يرسمه بنصف ملامح، أنف وفاه بدون عينين أو حاجبين، أحيانًا أخرى كان يرسم عينيه فقط، قد يبدو ذلك مرعبًا، لكنني اعتدت على رؤية ذلك النوع من لوحاته وكنت أجده مضحكًا، وأكثر لوحة أضحكتني هي تلك التي رسمها له بدون أي ملامح.

أخبرني أن اسمه (كريستوفر)، وحينما سألته عن سبب رسمه له بتلك الطريقة، أجابني بأنه يكرهه ويستحق ذلك لأنه شخص سيء ومخادع، رغم مظهره الذي يوحي بالوقار.

لم يكن (كريستوفر) وحده الذي حدّثني عنه، حياته كانت مليئة بالأشخاص، مليئة بالأحداث والقصص، وكأنّه يحكي قصة حياته عن طريق لوحاته، كنت أسأله عمّن يكون أولئك الأشخاص، ويبدأ بذكر أسمائهم وقص بعض قصصهم عليّ، كنت أتشوّق لسماع قصصه ومغامراته التي خاضها معهم في كلّ مرّة، ولم أحاول مقاطعته يومًا، لأنه كان يأخذني لعالمٍ آخر،

لم أنس كوني قد تأثّرت وبكيت كثيرًا حينما روى لي قصة أحد رفاقه المقربين وختمها بتنهيدةٍ عميقةٍ منه وهو يحكي لي موته في الحرب، كنت قد سألته قبلًا عمّن يكون ذلك الذي رسم ملامحه الجديّة بدون زيادةٍ أو نقصان، وأخبرني أن ذلك رثاءٌ له، كان يحاول تهدئتي وهو يضحك، كونه مصدومًا ولم يتوقع بكائي.

أمّا بقيّة جدران الغرفة لم تكن تحمل سوى لوحاتها، لم يتوقّف عن رسمها كل ليلة، كان يرسمها بوضعيّات وتعابير وملابس مختلفة في كلّ مرّة، وجميع تلك اللوحات التي كان يرسمها لها كان يجعلها فيها بأجمل وأسعد مظهر، لوحاتها كانت الأكثر إتقانًا من بين جميع لوحاته، كان يحرص على رسم تقاسيم وجهها بكل دقّة، على إظهارها كما هي.

كان النور ينبعث من تلك الحجرة طيلة الوقت، حتى في أشد الليالي حلكةً، كنت أختلس النظر إليه دائمًا، وأجده واقفًا أمام إحدى لوحاته، يلم خصلات شعره القصير برباط ويرتدي نظارته، يمسك بفرشاته ولا يكفّ عن رسمها، بسبب انهماكه وتركيزه الشديد في رسم تفاصيلها الدقيقة قد نسي كوب قهوته التي صارت باردةٍ فوق الطاولة ولم يحتس نصفها، ولم ينتبه لوجودي واقفةً خلفه دائمًا.

اللوحة الوحيدة التي رسمها لها ولم يعلّقها على الحائط هي ذاتها اللوحة الوحيدة التي لم تلوّن سوى باللون الأسود، الوحيدة التي لا يظهر فيها وجهها؛ لأنها كانت تغطيه بكفّيها، وشعرها المنسدل قد اختفى بسبب مخالطته مع لون فستانها الأسود، لم يكترث بإتقانها، بخلاف جميع لوحاتها والتي كان يقضي وقتًا طويلًا في تلوينها وإظهارها بأبهى حلّة.

لأنني لم أستطع رؤية وجهها، تجهّمت ولم تعجبني تلك اللوحة حينما رأيتها، سألته "لمَ؟"، بدلًا عن "من؟"؛ فقد كنت أعلم بأنها أمي، تلك التي اعتاد رسمها.

بدا متوقعًا سؤالي مسبقًا؛ فقد علم بأنني أسأل عن سبب رسمه لها بذلك الشكل، عن سبب عدم وضعها على الحائط، حينها أطال تأمّله في تلك اللوحة، عينيه المكسوفتين بدت تحمل الكثير والكثير لتقوله، لكنه اكتفى بأن قال : "إنها تبكي، تعلم تمامًا أنني أكره رؤية وجهها الحزين والباكي؛ لذلك تضع كفّيها على وجهها، لكن مجرّد رؤيتي لتلك اللوحة تجعلني حزينًا، وهي لا تريدني أن أكون هكذا".

ختم حديثه قائلًا بنبرةٍ حادّة : "أنا أعاقب نفسي بعدم وضعها على الحائط؛ لأنني رسمتها بذلك الشكل، الذي أكرهه".

بينما كان يجلس يرسم إحدى لوحاته الغريبة أزحت ألوانه وفرشه جانبًا، اتكأت على الطاولة بيديّ لأرفع جسدي وأجلس بجانب تلك اللوحة التي يعمل عليها، في نفس المكان الذي كان يحملني ويجلسني عليه في صغري لأراقبه وهو يرسم، لأنه كان الشخص الوحيد الذي يشعرني بكوني طفلته المدللّة مهما كبرت، بدأت أأرجح قدميّ اللتان فارقتا الأرض وأملت رأسي وسألته بتعابير طفوليّة : "حدّثني عنها! أريد سماع المزيد عنها".

ابتسم لي وراح يجول في الغرفة ويشاهد لوحاتها في صمتٍ مطبق، إلى أن وقف عند إحداها وبدا وكأنه كان يتذكّر أمرًا، رغم أنه ليس في حاجةٍ للتذكّر، فعقله وفكره كان معها دومًا، كان يحاول ترتيب كلماته فقط، إلا أن خرجت تلك الكلمات من ثغره المبتسم : "كانت تتسم بالقوّة، ذات كبرياء، لا تسمح بأن يتم إهانتها أو التقليل من شأنها، هيبتها تجعل أسوء الناس خلقًا يطأطئ رأسه، ونظرة واحدة منها تلجم أفواه الحمقى".

في نفس الوقت الذي تلاشت فيه تلك الابتسامة، قال وهو يلامس وجنتها في تلك اللوحة : "كانت تمتلك جانبًا آخر، ولم تحاول يومًا إظهاره لأي شخص، كانت حنونة، حسّاسة، ذات قلب مرهف ورقيق، وكتومة جدًا".

نصحني مرّة وقال : "لا تكوني كوالدتك، لا تتزوجي من رجلٍ مجنون يملأ مرسمه بلوحاتك، ولا يتوقّف عن رسمك كلّما غشاه الحنين".

قد لا أفهمه أحيانًا كثيرة، لا أفهم فلسفته التي يحاول إيضاحها بين ثنايا لوحاته، أو المغزى العميق في رسمه لهم بتلك الطريقة، الأمر الوحيد الذي فهمته وعرفته هو أن الرسامين مجانين، لذلك هو مجنون، مثلهم تمامًا.

- (جينيفر بليفينس)، جزء من رواية مولد الشيطان.

تعليقات